تفجير المرفأ… رفع الحصانات والعدالة في بازار التناحر
مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للتفجير المأساوي الذي أصاب بيروت وأهلها وخلّف مئات الضحايا على امتداد الوطن، تبدو العدالة أبعد في بلد تضيع فيه حقوق الأحياء والأموات معًا. النظام الظالم الذي يُطيح بكل المقومات الأخلاقية والإنسانية لإدارة الوطن يجعل من العدالة مهزلة خاضعة للبازارات السياسية ولمصالح السياسيين المتناحرين.
تحقيقات عشوائية وتوقيفات واستدعاءات واستثناءات تتراقص فوق دماء الضحايا وعلى أنقاض العاصمة وجراح أهاليها. ويأتي مشهد الجدل على رفع الحصانات عن المدّعى عليهم في القضية ليغرز في الجراح ويفيض مزيد من الآلام على شكل “عريضة”.
بعد أن انقسمت آراء الكتل النيابية بشأن مثولهم أمام المجلس العدلي أو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بناءً على طلب القاضي طارق بيطار برفع الحصانة عن عدد من النواب (الوزراء السابقين) لملاحقتهم في قضية تفجير مرفأ بيروت. أفتت الكتل المؤيدة للخيار الثاني في جمع تواقيع 26 نائباً على عريضة نيابية تفتح مسار المحاكمة، للمرة الأولى في تاريخ لبنان، أمام المجلس الأعلى.
العريضة النيابية، التي انطلقت بدوافع دستورية ومزايدات، لقيت استهجانًا حقوقيًا وشعبيًا لا سيّما من أهالي شهداء تفجير المرفأ ونشطاء مجموعات في المجتمع المدني بعد أن سُرّبت لائحة بأسماء نواب وقّعوا عليها. والعريضة ترفض جهاراً محاكمة النواب أمام القضاء العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت وتُطالب بمحاكمتهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والرؤساء، وطهر أن النواب الموقعين هم من كُتل “أمل” و”حزب الله” و”المستقبل” وبعض المستقلّين، ما أثار حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تطالبهم بسحب تواقيعهم، واصفين إيّاهم بـ”نواب النتيرات”.
بعدما بلغ عدد النواب الموقعين على العريضة النيابية الى 26 نائبًا، وتحت وطأة الشتم والتنديد الشعبي، بدأ عدد من النواب بسحب تواقيعهم، ووفقًا لأخر المستجدات، فقد سحب كل من سامي فتفت، نقولا نحاس، ديما جمالي، عدنان طرابلسي، بالإضافة الى النائب سليم سعادة تواقيعهم عن العريضة ما ادّى الى انخفاض أعداد الموقعين ووفقاً لذلك لن تُبصر العريضة النور.
مصير العريضة إذاً السقوط بعد سحب التواقيع، وما هو متوقع بحسب الخبير القانوني والدستوري الوزير السابق زياد بارود، هو سريان المسار القضائي القائم الذي يتولاه قاضي التحقيق العدلي طارق البيطار أما موضوع الحصانة فهو شأن آخر مرتبط بهذا التحقيق وله مسار آخر. ويُفسّر بارود أنه “لو سلكت العريضة طريقها للهيئة العامة كان سيصوت النواب بأكثرية الثلثين لاتهام الأشخاص المعنيين بالعريضة”.
وفق القوانين، العريضة تستلزم توقيع خُمس أعضاء المجلس، أي لتوقيع 26 نائبًا لرفعها إلى رئيس مجلس النواب الذي يبلّغها للنواب والمدعى عليهم مع إعطائهم مهلة 10 أيام للردّ عليها. على أن يتم عرضها على الهيئة العامة لتصوّت لإنشاء لجنة تحقيق يفترض أن تعود لتعرض نتائج تحقيقها على التصويت العام بالثلثين أي 86 نائبًا. وإذا انتهت الخطوة هذه بالاتهام، فعندها تتم الإحالة إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
القضية التي تثير الصدمة كتلك التي عاشها اللبنانيون لحظة التفجير، لم تستطع الإفلات من الذم اللبناني والانقسام والتسييس منذ بدء مسارها القانوني. وبعدَ رفض المحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار طلب الهيئة المشتركة (المؤلفة من هيئة مكتب مجلس النواب ولجنة الإدارة والعدل) تزويدها بمستندات إضافية تتعلّق بالنواب: علي حسن خليل، غازي زعيتر ونهاد المشنوق لرفع الحصانة عنهم واستجوابهم كمُدّعى عليهم في الجريمة، بقي انتظار إجراءات الهيئة العامة لمجلس النواب.
مسألة الحصانة بحسب مصادر قانونية، يجب تفسيرها ضمن الغاية التي وضعت من أجلها وليس بحرفيتها، فقد كانت الغاية من حصانة النائب هي عدم منعه من التشريع، لذا جرى حصر النظر فيها خلال دورات انعقاد المجلس العادية والاستثنائية، في حين أن حصانة المحامي وضعت لغاية واحدة هي عدم عرقلة مهامه في الدفاع عن موكليه.
أمّا استدعاء النواب المحامين، الذين يحظر عليهم قانون تنظيم مهنة المحاماة مزاولة المهنة خلال توليهم مهام رسمية نيابية أو وزارية، فلا يخرق دورهم التشريعي أو الدفاعي عن موكليهم. وإذ ترى أن هيئة مكتب مجلس النواب ليست سلطة تعلو على سلطة القاضي لتطلب منه مستندات إضافية، تشير إلى أن هذا الطلب من شأنه أن يخرق سرية التحقيق.
القاضي البيطار علّل في كتابه ردًا على المجلس النيابي أن الحفاظ على سرّية التحقيق يفرض عدم إمكان تزويد المجلس بالمستندات والأدلّة المطلوبة. ويُنقل عن المحقّق العدلي أنّ “عدم منح الأذونات المطلوبة من مجلس النواب فيما يخصّ النواب والوزراء السابقين، لن يؤثّر على مجرى التحقيق، حيث سيُضمِّن البيطار قراره الاتّهامي نوع الجرم المُسنَد إلى هؤلاء، والموادّ القانونية التي تُطبَّق عليه، وبأنّ عدم منح الأذونات المطلوبة أدّى إلى وقف الملاحقة بحقّهم. والأمر نفسه ينطبق على القادة الأمنيّين في حال عدم منح الإذن بملاحقتهم”.
مصادر قضائية مطلعة تعتبر أنّ “الشخصيات السياسية والأمنيّة المدّعى عليها ولم يصدر الإذن بملاحقتها، “تبقى محصّنة من مسار الملاحقة القضائية حتّى بعد صدور القرار الاتّهامي وبدء المحاكمات أمام المجلس العدلي، كما يمكن الاستماع إلى إفاداتها أمام المجلس العدلي ضمن خانة “الشهود” (ويسري ذلك على رئيس الجمهورية أيضاً) وليس كمدّعى عليها”.
“المثول أمام القضاء لا يعني إدانة”، وبحسب بارود “يجب إعادة النظر بمبدأ الحصانات وبمقابل الجريمة الكبرى يجب أن تسقط الحصانات احترامًا لأهالي الضحايا ومن سقطوا، ولكن كل الحصانات الدستورية والقانونية باتت بمكان ما، إذا نظرنا للسوابق بالعقود الأخيرة، كانت تعرقل عمل القضاء”.
لا تسقط العريضة النيابية إلا بكتب من النواب الراغبين بالتراجع عنها تُسجّل أصولاً في المجلس النيابي، كما يُفسّر المحامي الدكتور بول مرقص، مؤسسة JUSTICIA لحقوق الإنسان، فيما سوى ذلك تبقى قائمة. وسقوطها لا يعني سقوط الحصانات. ويضيف أنه إذا رفض المجلس النيابي رفع الحصانة، للمحقق العدلي ملاحقة النواب عند نيل الحكومة الجديدة الثقة دون حاجة لرفع الحصانة.
حتى الآن النواب الذين حسموا قرارهم بإبقاء رفع الحصانات هم 60 نائبًا. أما الذين أيدوا إحالة الملف على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هم 47 نائبًا. ويبقى من النواب الـ118 11 نائبًا لم يحسموا قرارهم علنًا.
في ظلّ إجراءات التحقيق والإدعاءات القانونية في قضية مجزرة المرفأ التي قد تشمل المزيد من المسؤولين والسياسيين بحسب ما سُرّبَ مؤخراً، ستبقى هذه الحصانات عائقاً أمام العدالة المنتظرة من اللبنانيين وأهالي الضحايا والشهداء وإذا ما رُفعت ستبقى رهناً لتسويات سياسية…
راني برو